كلمة حق في ذكراه العشرين

ثلاثاء, 05/02/2017 - 17:36

قبل أيام وبينما أنا أقلب دفترا لي ، كنت قد اتخذته  لتسجيل وتوثيق بعض الأحداث الخاصة ، تراءى لي وفي صفحة خاصة به تاريخ وفاته الذي يصادف هذه الأيام  من سنة 1994م

توقفت عند هذا التاريخ طويلا ... لم أستطع قلب الصفحة الموالية ، أطبقت الدفتر وأرجعته لمكانه ،،، تدفقت ذكريات الحدث المتصل بذلك التاريخ  عبرشريط الذاكرة المضغوط أصلا بأحداث عظيمة أخرى ( فرج الله كرب أمتنا وأصلح حالها ) تتابعت هذه الذكريات وتواردت على القلب دون استئذان ، وفي انتظام مهيب يلاحق بعضها بعضا ، وكأنها تقول لي كفى !! كفى!! لقد انتهى الوقت الاختياري لأداء أقل ما يجزئ من فريضة الوفاء لذلك الرجل الذي عاش من أجل الجميع وتُرك للضياع في غياهب النسيان من طرف الجميع .

رجعت بي الذاكرة مرة أخرى إلى ما قبل هذا التاريخ بعقد من الزمن ، وتحديدا إلى سنة 1985 حين بدأت أتصل بالمرحوم وأزوره ، بل وأسكن معه أحيانا ، وأسمع منه وأنجز له بعض الأعمال التي يكلفني بها ،  فقلت في نفسي : والله لا عذر لي ، وهذا حصاد عشر سنين من الذكريات الجميلة الملهمة ، بما حوته من أحداث ، وما تضمنته من دروس في الحياة، ومن معلومات للتاريخ ، فكان لا بد من تسجيل شيء ما ، فجاءت هذه الكلمة جهد مقل ، وإقدام مكره لا بطل .

توطئة عامة :

للحياة في كل مجتمع أوجه متعددة ، ومناحي مختلفة ... يبرهن المجتمع من خلالها على فاعليته وقدرته على الحركة والسير نحو الأفضل .

وبقدر انتظام هذه الحركة ومواكبتها للأوضاع المستجدة وشمولها ، يكون رقي المجتمع ، وازدهاره ، وتطوره .

بيد أن هذه المناحي ستظل راكدة  تراوح مكانها ، مالم يتهيأ لها من يحركها تحريكا يسترعي انتباه المجتمع لها ، ويفتح الآفاق لتطوير مفاهيمها وتحديث وسائلها ، ليضعها على طريق الحركة والتجدد ، ويخرج بها من نفق التحجر والتجمد.

رواد حركة المجتمع وتطوره :

وهؤلاء الذين تقدمت الإشارة إليهم ، واللمح إلى بعض خصائص دورهم في مجتمعاتهم ، هم رواد حركة المجمتع وتطوره ، كل في المجال الذي قصده ، والباب الذي فتحه ، والميدان الذي اكتشفه وقصر عليه جهده .

وإذا كان ثمت من ضرورة لتعريف هؤلاء ، بوضع معيار لهم يحدد المفهوم ، ولا يتجاوز المعروف المعلوم، فإني أرى أن كل من توجهت همته ، وتحركت إرادته لخدمة مجال من مجالات الحياة مغفول عنه ، متفق على حيويته – سواء خدمه بالفعل أوالقول ، أوبهما معا -، ثم أثمرت حركته تلك التغيير الإيجابي المأمول – فإني أعتبره رائدا في مجاله الذي اختاره ، وأحتفظ له بحقه فيما ارتاده .

منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة :

وإذا كان بعض هؤلاء الرجال يتحمل أعباء  رحلة الريادة الشاقة ، ويحبس نفسه فيها على مواصلة السير رغم العقبات ، وكثرة المثبطات ، يفعل ذلك بدافع من حب الشهرة ، والتوق للذكر في المحافل ، والتألق في المجامع ، فإن قليلا هم الذين دخلوا الميدان بدافع الغيرة للمجتمع ، وخالص الرغبة في الثواب من الله ليوم الجمع ، جمعوا أمرهم على مواصلة السير، والوصول إلى كل خير ، بعد أن تحققوا من أركان وشروط المعاملة ، واستعلموا عن حقيقة الأمور المناقضة للصفقة ، فقطعوها بيعة مع الله في السر والعلانية ، ورسموا على ضوء ذلك خطتهم لخدمة مجتمعهم ، وانتقوا وسائلهم للوصول إلى أهدافهم حسب طريقتهم .

ثم استبعدوا كل ما من شأنه نقص ثوابهم ، أوالتشويش على مقاصدهم ونياتهم ، حتى رحلوا إلى الآخرة وهم في صفائهم ونقائهم ، لم تخالط الدنيا قلوبهم ، ولم تفتنهم في تواضعهم ، عاشوا في مواساة الضعفاء والمساكين ، والسعي في حوائجهم ، وماتوا كما يموت أي واحد منهم .

ومِن هؤلاء:

وفي اعتقادي أن من هؤلاء القلة:  المرحوم الشيخ / محمد الأمين ولد الطالب عثمان ، مؤسس ومدير(المؤسسة الخيرية لكفالة الأيتام والأرامل )، التي عرفت في العاصمة نواكشوط من أواخر السبعينات وإلى منتصف التسعينات من القرن الماضي .

أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا، ولم أنسبه إلى تلك الأوصاف – مع علمي بما تعنيه الشهادة بمثلها – إلا لما كان قد تبين لي من ظاهر أعماله ، وخبرته من حقيقة أمره ، مع ما يصدق رأيي فيه من أقوال الفضلاء من معاصريه وشهادتهم بفضله وورعه .

 

حياة السفر والترحال وأثرها في تكوين شخصية الشيخ :

وأعود الآن لبيان بعض ما أجملته بخصوص هذا الشيخ ، فأقول : لقد تمكن الشيخ رحمه الله تعالى من العودة إلى وطنه ومجتمعه بعد غربة طويلة اخذت معظم حياته في رحلة شاقة قادته إلى نحو ثلاثين بلدا من بلدان العالم ، أغلبها من بلدان المنطقة الإسلامية .

و كان ذلك في وقت (  : 1935 -- 1978 تقريبا )  تغرق فيه المنطقة الإسلامية بموجات متلاحقة من الأفكار والرؤى ، وتعج فيه بمختلف المذاهب والنحل ، وتئن تحت وطأة الأزمات ذات الصلة بالاستعمار والهيمنة الغربية ، في دوامة لا نهاية لها من الصراع المستمر تطحن السواد الأعظم من الضعفاء والمحرومين ، وتخلف وراءها كل يوم أفواجا من اليتامى والأرامل  والضعفة ، قد ألقي بهم على قارعة الطريق ، في مجتمع تخلخلت  فيه الصلات ، وضعفت فيه عرى القرابات ، وأصبح فيه الفرد لا يشكو إلا بث نفسه ، ولا يحزن لحال غيره ، مما أرى أنه ربما كان  قد ترك أثرا في حياة الشيخ  ، وفي تكوين اهتماماته ، وأساسيات توجهه الذي سنتعرف عليه فيما بعد إن شاء الله تعالي .

هذا فضلا عما تهيأ له من خلال تلك الرحلة من الاطلاع على كل التجارب ، والتعرف على مختلف النماذج ، مما عمق رؤيته ، وأثرى بحق تجربته ، ثم عاد بعد كل ذلك إلى وطنه ليقدم له ما استطاع من خدمة ،  يختم بها حياته ، ويحقق حلما طالما عانق خياله .

العمل في المجال الاجتماعي :

وهكذا اختار الشيخ لعمله منحى من أهم مناحي الحياة وأشدها التصاقا بالإنسان، ألا وهو المجال الاجتماعي ، ومن خلال رؤية إسلامية مؤصلة .

ولعلي هنا  وفي ضوء ما تقدم أستطيع أن أجمل الأسباب التي جعلت الشيخ – من وجهة نظري - يختار هذا المجال بعينه فيكرس له  ما سمعته يقول  :-  في أكثر من مناسبة – إنه حظ ونصيب وطنه من حياته ( هذا الل مزال ألا كرعت الوطن من عمرنا ) ، وذلك من خلال النقاط الآتية :

كثرة التنقل والتجوال : فرحلة أربعين عاما أوأكثر قضاها الرجل يذرع الأرض شرقا وغربا ،  تعايش خلالها مع كثير من المجتمعات الإنسانية ، وعاشر مختلف الجماعات البشرية ،لا شك  قد أثرت موهبته الاجتماعية ، وصقلتها ، وخطت بها خطوات كبيرة نحو النضج  والاكتمال .

سنه إبان عودته : فقد تأكد لي من جملة مقارنات قمت بها أن الرجل وقت عودته للوطن كان عمره قد تجاوز السبعين عاما ، وهي مرحلة من العمر لا يناسبها في الغالب سوى العمل الاجتماعي ، والشيخ نفسه كان على دراية تامة بذلك ، فلم يشأ تضييع وقته في الانشغال بأعمال لا تسندها الظروف الموضوعية الضرورية لإنجاحها والكفاية  فيها  ، وهذا في نظري مما يدل على ثراء تجربته وجديته  ، ودقة حساباته رحمه الله تعالى ، وإلا لكان قد ورط نفسه بالدخول في مجالات أخرى ، أتيحت له فيها فرص كبيرة لكنه لم يشأ تبديد جهده . ( وكان يقول : إن هواية ذوق التجارب آفة بدوية متأصلة في مجتمعنا للأسف( .

 

  اتصاله المباشر بكثير من قادة وكوادر العمل الإسلامي بمختلف شعبه وفروعه في كثير من البلدان الإسلامية ، خاصة في الكويت والأردن وإيران وتركيا والعراق . ( أتذكر أنه في سنة 2001 تشرفت بمرافقة أستاذي وشيخي ، فضيلة الشيخ / محمد عبد الرحمن ولد محمد محمود – مدير معاهد الفاروق الإسلامية – حفظه الله تعالى -  في زيارة للشيخ يوسف الحجي بمكتبه في ضاحية حطين بدولة الكويت – والشيخ يوسف الحجي – حفظه الله تعالى - لمن لا يعلم هو أحد أبرز قادة العمل الإسلامي بالكويت خلال الخمسين عاما الماضية - ، استقبلنا الشيخ بحفاوة كبيرة ، وفرح بمقدمنا وأجلسنا في صالة ملحقة بالمكتب خاصة بكبار الضيوف ، وأمر بإكرامنا وجلس معنا ، ثم بدأ الشيخ محمد عبد الرحمن يتحدث وقدمني له قائلا : هذا فلان ابن عم زميلكم الشيخ محمد الأمين  ولد الطالب عثمان ، فانتفض الشيخ حتى كاد يخرج من المقعد وقال في اندهاش واضح : الشيخ محمد الأمين مدير المؤسسة الإسلامية بموريتانيا ؟! فقال له الشيخ محمد عبد الرحمن : نعم ، قال إذن سأعيد السلام عليه مرة أخرى ثم نهض ليقبل رأسي  فسبقته أنا للقيام وقبلت رأسه .

كان لقاء ممتعا بحق .... تحدث فيه الشيخ يوسف الحجي عن ذكرياته مع الشيخ / محمد الأمين ، وأسهب في الحديث عن تفاصيل زيارته لمؤسسته في انواكشوط  ، وعن إعجابه بدقة نظامها الإداري ، وبرنامجها التربوي والتكويني ،  ملاحظا أنها كانت المؤسسة الإسلامية الوحيدة في انواكشوط العاملة في المجال الاجتماعي أثناء زيارته تلك ( 1981).  ثم دعانا للمقيل معه في البيت ليفتح لنا ملف الزيارة ويطلعنا على بعض أنشطته المشتركة مع المرحوم وصوره التذكارية معه .لكن موجة أخرى من الشواغل حالت دون تلبية تلك الدعوة ) .

 

ثقافته الإسلامية :  فقد كانت للشيخ ثقافة إسلامية واسعة تأسست أثناء دراسته بالمحاظر قبل خروجه من البلاد ، ثم توسعت بعد ذلك من خلال التدريس في بعض البلدان التي زارها أو أقام بها فترة من الزمن .

وهي ثقافة يراها ويلمسها كل من صاحب الشيخ أو التقى به ، لا في صورة مسائل ونصوص تحفظ  فقط ، وإنما يراها - مع ذلك - سلوكا ووجدانا وفكرا وممارسة .

 

الحالة العامة للبلاد إبان عودته أواخرالسبعينات من القرن الماضي : 

حيث بدأت الآثار السلبية لسنوات الجفاف التي توالت على البلاد من أواخر الستينات تلقي بظلالها على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية للبلد: ( الهجرة القسرية من الريف إلى المدن –عجز الدولة عن تغطية الاختلالات الناجمة عن ذلك - تفاقم مشكلة الفقر- زيادة معاناة الفئات الأكثر هشاشة  في المجتمع .....إلخ ) .

 

خلو الساحة من أي عمل إسلامي خيري منظم ، في الوقت الذي نشطت فيه المنظمات والجمعيات الخيرية التبشيرية مستغلة الوضع الإنساني الجديد.

 

- هذا وإني لا أشك في أن الشيخ قد وجد دعما وتشجيعا من التيار الإسلامي في موريتانيا ، الذي بدأ يتكون وينشط في هذه الفترة ، مضطلعا بدوره الرائد  في توعية المجتع وتوجيهه عبرأنشطة مجموعة من العلماء والدعاة المصلحين الواعين لأوضاع الأمة ومشكلاتها ، مما أفترض – موضوعيا – أن الشيخ قد وجد فيه  سندا وعونا ، وإن بطريق غير مباشرأحيانا .

فكرة المؤسسة :

وهكذا فقد توافر للشيخ – رحمه الله تعالى – من العوامل الموضوعية ما هيأ له وضع الأسس اللازمة لإنشاء أول تجربة في العمل الخيري الإسلامي المنظم في موريتانيا ، تأخذ في الاعتبار كل المفاهيم العصرية التي تستوجبها رسالة من ذلك القبيل ، وتستوعب كل الجوانب التي يجب أن يهتم بها عمل بذلك التوصيف  من رعاية عامة ، وتربية ، وصحة،  وتعليم ، وتكوين ، وتدريب ....إلخ ، فجسد رؤيته لهذه الجوانب كلها في مؤسسته التي اختار لها شعار ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة .... ) وعنوان : ( المؤسسة الخيرية لكفالة الأيتام والأرامل في موريتانيا ) .

ولم تكن هذه المؤسسة مؤسسة ناجحة في أداء وتصريف مهامها الآنية فقط ، بل كانت مع ذلك تمثل برنامجا عمليا متكاملا للنهوض بهذا العمل وترقيته وتطويره ، استلهم منها كل من جاء بعده ، ونهضت لهذا العمل همته ، حتى كانت النقلة النوعية التي نشهدها الآن في مجال العمل الخيري الإسلامي المنظم في بلادنا ...

فرحم الله الشيخ ، وأجزل له المثوبة ، وتقبل منه الاعمال الصالحة . إنه ولي ذلك والقادر عليه  .

هذا والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبيه الكريم

الشيخ أحمد ولد مولاي عمر